أتذكر أن الصديق «عمرو عبد السميع» خلال فترة تجربته اللندنية.. كمدير لمكتب الأهرام.. اصطحبنى فى رحلة إلى مدينة «برايتون».. وهناك التقينا مع واحد من طيور مصر المهاجرة.. حزنت كثيرا عندما سمعت خبر رحيله فيما بعد.. فقد كان الدكتور «محمود سعادة» طبيبا وأستاذا متخصصا فى علاج العظام.. كان يعيش فى تلك المدينة البريطانية الساحرة.. استضافنا فى منزله باعتبار صداقته العميقة مع الدكتور «عمرو عبد السميع».. وتجاذبنا أطراف الحديث، ثم خرج ثلاثتنا للتمتع بالشمس على شاطئ بحر، يذكرك بمدينة الإسكندرية تماما.. فالمدينة تجعلك تعيش فى الإسكندرية.. لكنك لا تشعر بالسحر السكندرى ولا تلك الروح المصرية.. وعلى شاطئ البحر كانت هناك مجسمات كبيرة وضخمة، يطوف حولها المواطنون الانجليز وبعض من يدفعه فضوله من السائحين.. وقد حاكينا أصحاب الفضول، ورحنا نطوف حولها ونفهم ماذا تعنى؟
كانت الانتخابات البريطانية يقترب موعدها.. وفهمت أن حزب العمال بقيادة «تونى بلير» هو الذى وضع تلك المجسمات.. فقد كانت جزءا من حملته الانتخابية.. راح يخاطب بها أهالى تلك المدينة.. وضع أمامهم صورة مدينتهم فى المستقبل، إذا انتخبوه مع حزبه.. كان المواطنون يتناقشون بحرارة، ويبدون سعادة طاغية ودهشة واضحة على وجوههم.. بل إن بعضهم كان يتبادل التهانى مع البعض الآخر.. وعرفت أنهم عند تلك اللحظة الإنسانية قرروا الانحياز لحزب العمال، لإعجابهم وتقديرهم بما سيعطيهم عبر تلك المجسمات التى تضع أمامهم صورة مدينتهم بعد أن يمنحوه ثقتهم.. أذكر أننى ضحكت بصوت عال، وقلت مثلا شعبيا: «دى الانتخابات فى بريطانيا زى اللى بيقولوا عليه عندنا الدفع على راس الميت»!!.. وهنا انفجر الدكتور «عمرو» والدكتور «سعادة» ضحكا.. وتذكرت تلك الحكاية التى أكررها كثيرا.. فقد سبق لى أن قرأت عن أن «مارجريت تاتشر» عندما ترشحت كزعيمة لحزبها – المحافظين – مستهدفة انتزاع الثقة من حزب العمال.. كانت تذهب إلى المؤتمرات الشعبية وفى يدها سلتان.. وما أن يبدأ المؤتمر، حتى تشرع فى تفريغ ما فى كل سلة على حدة.. تخرج من السلة الأولى بيضة واحدة.. ومن السلة الثانية بيضتين.. ثم تعود للسلة الأولى فتخرج قطعة لحم واحدة.. ومن السلة الثانية قطعتين.. وهكذا مع عدد من السلع الضرورية للمواطن.. ثم تشير للأولى على أنها كل ما يملكه حزب العمال تجاه الشعب.. أما السلة الثانية فهى الذى سيقدمه حزب المحافظين للناخبين!
فى بريطانيا عاصمة العراقة فى الديمقراطية، وواحدة من أهم عواصم التحضر فى العصر الحديث.. يفهم الناس السياسة هكذا.. وعندما جاء «بلير» وكان قد درس ما فعلته «تاتشر».. فشرع فى اتباع منهجها مع تطويره.. فإذا كانت «تاتشر» قد خاطبت المعدة والاحتياجات الأساسية، ونجحت فيها بالتأكيد.. فإن «بلير» اختار أن يخاطب فى الشعب التطوير والتحديث والتنمية.. وإن كانت «تاتشر» قد استخدمت السلتين.. فإن «بلير» أجاد استخدام تقديم مجسمات رؤيته للمستقبل مع حزبه.
تلك الحكايات التى رأيتها بأم عينى، وقرأت عنها مبهورا.. تذكرتها حين تابعت «عمرو موسى» المرشح لرئاسة الجمهورية.. فقد اختار أن يذهب إلى «عزبة الهجانة» كواحدة من المناطق العشوائية فى مصر.. أراد باختياره أن يقول إنه سيبدأ من مناطق الفقر والتخلف.. فلم يرتق إلى مستوى دفاع المرحوم «مصطفى السلاب» عن أهالى تلك العزبة.. فالنائب «مصطفى السلاب» دخل فى مواجهة مع محافظ القاهرة، حين أراد المحافظ تطبيق القانون وهدم المبانى التى كانت ترتفع يوما بعد الآخر دون الحصول على التراخيص.. وكانت قضية شغلت الصحافة والرأى العام.. ويومها اعتقد أهلنا من الناس الطيبين فى «عزبة الهجانة» أن نائب دائرتهم رجل شهم يدافع عن تجاوزهم للقانون لقلة حيلتهم وعجزهم عن التحدى إلا عندما يحل الظلام.. فإذا بالسيد «عمرو موسى» يمارس فعلا أقل بكثير من ذاك الذى مارسه النائب «مصطفى السلاب» بذهابه إلى تلك المنطقة العشوائية.. فقد قدم من هناك عرضا ميلودراميا يجعلك تضحك لحظة البكاء.. ذهب إلى «العزبة» ليقدم من هناك برنامجه.. وعند إخواننا المسرحيين يسمون ذلك النوع من التمثيل، بأنه مسرح الهواء الطلق.. أى أنك تقدم عروضك للناس دون حاجة لديكور.. باعتبار أن حياتهم هى ذاتها الديكور الذى يتطلبه العرض المسرحى.. هكذا فعل «عمرو موسى» مستجيبا لنصيحة أحد المبدعين إخراجيا فى حملته الانتخابية.. وربما أراد أن يقول إنه المواطن البسيط الذى انقطع عن الأمة لأكثر من نصف قرن مستمتعا بالطائرات ورحلاتها بين عواصم الدنيا.. وها هو يحط على الأرض ليذوب فى أزمات وهموم المواطنين.. وكم كان مثيرا أن كاميرات التليفزيون نقلت هيئته.. متأففا.. ضجرا.. متمنيا أن تنتهى لحظات هذا العرض ويسدل الستار، ليعود إلى طائرته تنقله بين عواصم الدنيا وأحيائها الراقية.. وقد يتحدث عن تلك اللحظة باعتبارها من المواقف المثيرة والغريبة فى حياته – سواء صادفه الفشل أو التوفيق.
كان هذا هو وصف المشهد حيث رأته العين.. أما ما يفهمه العقل عبر سماع الكلام من الأذن.. فقد تحدث «عمرو موسى» كثيرا بطريقته ذاتها.. كان يزف بشرى تقدمه لانتخابات الرئاسة للمواطنين، مقدما لهم كل الوعود التى يحق فيها الوصف بأنها «كلام الليل» ومعروف أن هذا الكلام «يسيح إذا طلع عليه النهار».. وقد تعمدت أن أسمع من الناس فى «عزبة الهجانة» رأيهم فى مؤتمر «عمرو موسى» الذى تفوق فيه على كل برامج «التوك شو».. وقدم خلاله عرضا أضحك الناس وأبكاهم فى الوقت ذاته.. لكنه عند ليل هذا اليوم قالوا لى كلاما يفجر الضحكات المتتالية، للحد الذى يجعلك تحاول أن تهرب من بينهم.. وكنت قد تعرضت للعكس حين تابعت على الشاشات ما فعله «عمرو موسى» فى «عزبة الهجانة».. لأننى ارتفع ضغط دمى وكدت أنفجر غيظا.. ليس لكونى أثق فى أنه ليس الرجل المناسب، ولا لأن هذا الوقت لا يحتاج أمثال هذا المرشح.. ولكن ليقينى فى أن «عمرو موسى» ذهب إلى «عزبة الهجانة» مخاصما الجدية ورافضا الصدق مع الذات والوطن والناس.. ولو أنه كان كما أدعى، لقدم من هناك نموذج «تاتشر» فى بريطانيا.. وظنى أنه لا يقدر على تقديم نموذج «بلير» فى الدولة ذاتها بعد سنوات طوال.. لكن الرجل اختار محاكاة النائب «مصطفى السلاب» بأداء فاتر، يجعل المرحوم فى عيون أهل «عزبة الهجانة» أفضل بكثير!
«عمرو موسى» والدكتور «محمد مرسى» المرشح الاحتياطى لما يسمى بجماعة الإخوان المسلمين.. يمضيان على طريق الحزب الوطنى الساقط فى الأداء السياسى.. فهذا يختار الفقراء ليخلع عليهم شرف زيارته لمنطقتهم.. وذاك يذهب للفقراء لكى يمنحهم «صكوك الغفران» ويبشرهم بالجنة فى الآخرة.. ولا عجب فى أن «عمرو موسى» كان شريكا علنيا لنظام المخلوع.. والدكتور «محمد مرسى» كان شريكا سريا للنظام ذاته.. أما شباب الثورة التى أسقطت المخلوع ونفر من رموز نظامه.. فيكفيهم أن مات منهم المئات مع صدقهم وأمانتهم وإخلاصهم.. وفقد منهم الآلاف عيونهم وأعضاء من أجسادهم مع صحتهم النفسية.. ليتأكد لنا أن ليس كل ما يلمع ذهبا.. فقط أدعوكم للتأمل والفهم، بقدر ما أدعوكم للتفاؤل!